لا شك أن التاريخ من العلوم الاجتماعية التي تهتم بدراسة ماضي البشر، فمن يجيد قراءة التاريخ يحسن قراءة المستقبل، فقد منَّ الله علينا كسعوديون بدولة يمتد تاريخها لثلاثة قرون، ومن هذا الإرث التاريخي المعاصر نستمد هويتنا وثقافتنا وتقاليدنا التي تكفل لنا تماسك مجتمعنا في إطار الهوية الإسلامية وفلك الشريعة السمحة.
إن ما جرى في “قمة جدة الأمن والتنمية” جعلنا كسعوديين نستذكر شخصية والدنا المؤسس الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، أعظم رجال القرن العشرين، وأحداث وظروف “معاهدة جدة في 20 مايو 1927″، وكيف استطاع بحنكته ودبلوماسية وبعد الحرب العالمية الأولى مواجهة أقوى الدول العظمى بريطانيا في ذلك الوقت، وأخذ الاعتراف بسلطانه بعد ضم الحجاز، وكيف واجه الكساد العالمي والفقر، الذي عمَّ البلاد والبحث عن موارد دخل للدولة بعد إعلان قيامها كدولة مستقلة ذات سيادة في عام 23 سبتمبر 1932 دستورها القرآن الكريم والسنة النبوية، وكيف واجه الحرب العالمية الثانية في عام 1939م، وتجنيب بلاده الحرب رغم الضغوطات السياسية من الحلفاء للانضمام للحرب من خلال إعلان الحرب على ألمانيا ودول المحور.
يقوا قال الدكتور لزلي مكلوكلن: “كان الملك واعيًا تمامًا لإمكانية اتساع رقعة الحرب، لذلك كان أمام أصعب قرار في حياته السياسية، من ناحية اختيار الحياد أو الانضمام إلى طرف من الأطراف”.
وبتوفيق من الله عز وجل، ثم حكمة الملك عبدالعزيز، رأى أن مصلحة بلاده اتخاذ موقف الحياد، فاختار الحياد ومراقبة المشهد الدولي، مما جعل اللورد البريطاني موين يقول معجبًا بشخصيته: “تحرك عبدالعزيز وطنية صادقة، وولاء لوطنه، وتقديس عميق مؤصل لدينه، ورغبة أكيدة لا يخامرها ظل شكٍّ أبدًا في العمل على خدمة مواطنيه والوصول بهم إلى السلم والأمن”.
وكيف أعجب الإعلام الغربي بعد فرض الملك عبدالعزيز دولته الفتية على الكيان العالمي مما جعل مجلة (لايف life) الأمريكية تجري مقابلة معه في 31 مايو 1943م، تحدثت عن شخصيتة السياسية وإدارته للدولة وعلاقته مع شعبه تحت عنوان “ابن سعود ملك صنع مملكة”، وكما قال موريس جورنو” “إن الاستقرار والأمن الذي أنجزه الملك عبدالعزيز جعل الجزيرة العربية البلد الأكثر أمنًا في العالم”.
وبعد ذلك، كيف أخذت المملكة العربية السعودية تحتل أهمية استراتيجية في السياسة الخارجية الأميركية، وكيف سعى الأمريكان لتعزيز الصداقة مع الملك عبدالعزيز لكسبه حليفًا استراتيجيًا قويًا في المستقبل، وفي لقائه الشهير مع الرئيس الأمريكي روزفلت قال الملك: إن بلاده لم تقع تحت الاحتلال أو الانتداب وأنه يريد أن يبقى مستقلًا، وأن يكون هناك اتفاق استراتيجي مع أمريكا يقوم على الصداقة والاحترام.
وكيف أعجب الرئيس روزفلت به وللأمانة التاريخية كل من يقابل الملك عبدالعزيز كان لا بد أن يعجب بشخصية، وهذا ما قاله طيب تشرشل الخاص اللورد موران: “إن ابن سعود كان ملكًا عندما كان الملوك ملوكًا، لقد قاد معارك عدة وخرج منها منتصرًا وهو سيد العالم العربي ولم يهاب زائره الانجليزي الذي يعلم أنه متعاطف مع الصهيونية”.
لم يتخلى الملك عبدالعزيز عن مبادئه، ولم ينسلخ عن هويته الإسلامية والعربية والأعراف والعادات البدوية ليرضي الغرب رغم كل الظروف الاقتصادية والسياسية والحروب العالمية والتغيرات الاجتماعية والثقافية في البلاد المجاورة لبلاده، بل كان يستمد قوته من اعتزازه بهويته ونجد ذلك يتجسد في أقواله -طيب الله ثراه- ومنها: “أما نحن فلا عز لنا إلا بالإسلام، ولا سلاح لنا إلا التمسك به، وإذا حافظنا عليه حافظنا على عزنا، وهو سلاحنا، وإذا أضعناه ضيعنا أنفسنا، وبؤنا بغضب من الله”.
وبعد تسعين عامًا، يجدد لنا حفيده ولى عهد المملكة العربية السعودية سيرته ومواقفه وصلابته وشموخه، وكأن التاريخ يعيد لنا أحداثه في “قمة جدة الأمن والتنمية” التي تأتي في ظل تحديات إقليمية وعالمية كالحرب الروسية الأوكرانية والتحالفات الأوروبية، وتهديد الأمن الغذائي العالمي وسلاسل الإمداد والتكهنات والتخبطات الأمريكية والتدخلات الإيرانية بالمنطقة والغلاء العالمي، حيث سبق انعقادها جولات مكوكية واتصالات وتنسيق من ولي العهد – عبدالعزيز زمانه- محمد بن سلمان -حفظه الله- مع حكام الخليج والقادة العرب المؤثرين بالمنطقة لتعيد الأمور إلى نصابها وتعيد ترتيب أوراق الملفات الحيوية، وتذكر الحزب الديموقراطي الأمريكي الحاكم الحالي بأهمية ومكانة المملكة العربية السعودية التي ترفض فرض القيم عليها بالقوة.
وقال سموه الكريم -أعزه الله- كلمته الشهيرة: ” إننا نفخر بقيمنا النبيلة ولن نتخلى عنها” وأن بين المملكة والولايات المتحدة الأميركية معاهدات تاريخية وعلاقات استراتيجية قديمة، مما جعل الرئيس بايدن يقول: “أخطأنا بالابتعاد عن الشرق الأوسط ولدينا فرصة للتصحيح وأن ولي العهد يمثل السعودية، والسعودية تمثل الشرق الأوسط، والشرق الأوسط يمثل الاستقرار العالمي”.
وكما أمسى جده الملك المؤسس – طيب الله ثراه- حديث الإعلام الغربي في أربعينات القرن العشرين، أصبح حفيده سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حديث العالم بأجمعه.
في الختام، شكرًا سيدي محمد بن سلمان – عبدالعزيز زمانه- أن جعلت رؤوسنا تعانق السحاب فخرًا واعتزازًا بقيمنا وعاداتنا وهويتنا وسعوديتنا الجديدة. حفظك الله ورعاك.